فصل: تفسير الآيات رقم (1- 3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحت لهم جناتُ النعيم‏}‏، قيل‏:‏ معكوس، أي‏:‏ لهم نعيم الجنات، أو‏:‏ لهم بساتين، أو‏:‏ ديار النعيم‏.‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏‏:‏ حال من ضمير «لهم»‏.‏ والعامل‏:‏ الاستقرار‏.‏ ‏{‏وَعْدَ الله حقاً‏}‏ أي‏:‏ وعدهم ذلك وعداً، وثبت لهم حقاً مُهماً، مصدران مؤكدان، الأول لنفسه، والثاني لغيره، إذ قوله‏:‏ ‏{‏لهم جنات النعيم‏}‏؛ في معنى‏:‏ وعدهم الله جنات النعيم‏:‏ ‏{‏وحقا‏}‏‏:‏ يدل على معنى الثبات المفهوم من انجاز الوعد‏.‏ ‏{‏وهو العزيزُ‏}‏ الغالب، الذي لا يُعارَض في حكمه، فينفذ وعده لا محالة‏.‏ ‏{‏الحكيمُ‏}‏ الذي لا يفعل إلا ما استدعته حكمته‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الذين آمنوا في البواطن، وحققوا ذلك بالعمل الصالح في الظواهر، لهم جنات المعارف معجلة، وجنات الزخارف مؤجلة، وعداً حقاً وقولاً صدقاً، فما كَمُنَ في السرائر ظهر في شهادة الظواهر، وإلا كان دعوى ونفاقاً، والعياذُ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «بغير عمد»‏:‏ يتعلق بحال محذوفه، أي‏:‏ مُمْسَكَةً أو مرفوعة بغير عمد، و‏(‏عمد‏)‏‏:‏ اسمع جمع على المشهور، وقيل‏:‏ جمع عماد أو عامد‏.‏ وجملة ‏(‏ترونها‏)‏‏:‏ إما استئنافية، لا محل لها، أو صفة لعمد‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏خلق السماواتِ‏}‏ ورفعها ‏{‏بغير عَمَدٍ ترونها‏}‏، الضمير‏:‏ إما للسموات، أي‏:‏ خلقها، ظاهرة ترونها، أو لعمد، أي‏:‏ بغير عمد مرئية بل بعمد خفية، وهي إمساكها بقدرته تعالى‏.‏ ‏{‏وألقى في الأرض رواسي‏}‏ أي‏:‏ جبالاً ثوابت، كراهة ‏{‏أن تميد بكم‏}‏ أي‏:‏ لئلا تضطرب بكم، ‏{‏وبثَّ‏}‏‏:‏ نشر ‏{‏فيها من كل دابةٍ وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوجٍ كريمٍ‏}‏؛ صنف من أصناف النبات، ‏{‏كريم‏}‏‏:‏ حسن بهيج، أو كثير المنفعة‏.‏ وكأنه استدل بذلك على عزته، التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هي كمال العلم، فهي مقررة لقوله‏:‏ ‏(‏العزيز الحكيم‏)‏‏.‏

ثم أمر بالتفكر في هذه المصنوعات؛ استدلالاً على توحيده بقوله‏:‏ ‏{‏هذا خلقُ الله‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي تُعاينونه من جملة مخلوقاته، ‏{‏فأَرُوني ماذا خلقَ الذين من دونه‏}‏، يعني‏:‏ آلهتهم‏.‏ بكَّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلق الله، فأروني ماذا خلق آلهتكم حتى استوحبوا عندكم العبادة‏؟‏ ‏{‏بل الظالمون في ضلال مبين‏}‏، أضرب عن تبكيتهم؛ إلى التسجيل عليهم بالظلم والتورط في ضلال ليس بعده ضلال‏.‏

الإشارة‏:‏ خلق سموات الأرواح- وهو عالم الملكوت- مرفوعاً غنياً عن الاحتياج إلى شيء، وألقى في أرض النفوس- وهو عالم الأشباح- من العقول الراسخة، لئلا تميل إلى جهة الانحراف، إما إلى الحقيقة المحضة، أو الشريعة‏.‏ ونشر في أرض النفوس دواب الخواطَر والوساوس، وأنبتنا فيها من علوم الحكمة والقدرة، من كل صنف بهيج قال القشيري‏:‏ ‏{‏وألقى في الأرض رواسي‏}‏؛ في الظاهر‏:‏ الجبال، وفي الحقيقة‏:‏ الأبدال، الذين هم أوتاد، بهم يقيهم، وبهم يَصرِف عن قريبهم وقاصيهم، ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء‏.‏‏.‏‏}‏؛ المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَةَ، ومن سماء الباطن في رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة‏.‏ هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبَدْتم من دونه في أرضه وسمائه‏؟‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏يا بُني‏)‏؛ فيه ثلاث قراءات؛ كسر الياء، وفتحها؛ مُشَدَّدةً، وإسكانها‏.‏ وقد تتبعنا توجيهاتها في كتابنا «الدرر الناثرة فيه توجيه القراءات المتواترة»‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا لقمان الحكمةَ‏}‏ وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل‏:‏ كان من أولاد آزر، وقيل‏:‏ أخو شداد بن عاد، أُعطى شداد القوة، وأُعطى لقمان الحكمة، وعاش ألف سنة، وقيل‏:‏ أكثر، وسيأتي‏.‏ وأدرك داود عليه السلام، وأخذ منه العلم‏.‏ وكان يُفتي قبل مبعث داود، فلما بُعث قطع الفتوى، فقيل له في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ألا أكتفي إذا كُفيت‏.‏ وقيل‏:‏ كان خياطاً، وقيل‏:‏ نجاراً، وقيل‏:‏ راعياً‏.‏ وقيل‏:‏ كان قاضياً في بني إسرائيل‏.‏ وقال عكرمة والشعبي‏:‏ كان نبياً، والجمهور على أنه كان حكيماً فقط‏.‏ وقد خُير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وهي الإصابة في القول والعمل‏.‏ وقيل‏:‏ تتلمذ لألف نبي وتتلمذ له ألف نبي‏.‏ قاله النسفي‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنَّ عليه بالحكمة‏.‏ كان قائماً فجاءه نداء‏:‏ يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين الناس بالحق‏؟‏ فأجاب الصوت، فقال‏:‏ إن خيرني ربي قبلت العافية، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني‏.‏ قالت الملائكة بصوت ولا يراهم‏:‏ لِمَ يا لقمان‏؟‏ فقال‏:‏ لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، إن يُعَن، فالبحري أن ينجو، وإن أخطأ؛ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً، خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة؛ تفُته الدنيا، ولا يصيب الآخرة‏.‏ فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأُعطى الحكمة، فانتبه وتكلم بها» ه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ كان لقمان عبداً أسود، عظيم الشفتين، مُشققَّ القدمين‏.‏ زاد في اللباب‏:‏ وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها‏.‏ قيل‏:‏ لم يزل لقمان، ومن زمن داود مظهراً للحكمة والزهد، إلى أيام يونس بن متى‏.‏ وكان قد عَمَّرَ عُمر سبعة أنسر، فكان آخر نسوره «لبذ»‏.‏ رُوي أنه أخذ نسراً صغيراً فربّاه، وكان يصرفه في حوائجه، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات، قم أخذ نسراً آخر، فعاش خمسمائة سنة، ثم أخذ آخر، فعاش مثل ذلك، إلى السابع، عاش خمسمائة سنة، واسمه لبذ، فقال له لقمان يوماً‏:‏ يا لبذ انهض إلى كذا، فأراد النهوض فلم يستطع، وإذا بوتر لقمان قد اختلج، وكان لم يألم قط، فنادى بأهله وعشيرته، وعلم أن أجله قد قرب، وقال‏:‏ إن أجلي قد حضر بموت هذا النسر، كما أعلمني ربي، فإذا مت فلا تدفنوني في الكهوف والمقابر، كما ‏[‏تدفنون‏]‏ الجبابرة، ولكن ادفنوني في ضريح الارض، فدفنوه كما أوصاهم، فقال ابن ثعلبة‏:‏

رَأَيْتُ الْفَتَى يَنْسَى مِنَ الْمَوتِ حَتْفَهُ *** حَذُوراً لِرَيْبِ الدَّهْرِ، والدَّهْرُ آكِلُهْ

فَلَوْ عَاشَ مَا عَاشَت بِلُقْمَانَ أَنْسُرٌ *** لَصَرْفْ المَنَايَا، بعد ذلك، حَافِلْهُ

قال البيضاوي‏:‏ والحكمة في عرف العلماء‏:‏ استكمال النفس الإنسانية؛ باقتباس العلوم النظرية واكتساب الْمَلَكَةِ التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها‏.‏ ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً، وكان يسرد الدرع، فلم يسأله عنها، فلما أتمها لبسها، فقال‏:‏ نِعْمَ لبوسُ الحرب أنتِ، فقال‏:‏ الصمت حكمة وقليل فاعله، وأن داود قال له يوماً‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ فقال‏:‏ أصبحت في يَدَيْ غيري‏.‏ وأنه أمر لقمان بأن يذبح شاة ويأتيه بأطيب مُضْغَتين منها، فأتى باللسان والقلب، ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضاً فسأله عن ذلك فقال‏:‏ هما أطيب شيء؛ إذا طابا وأخبث شيء؛ إذا خبثا‏.‏ والذي عند الثعلبي‏:‏ أن الآمر له بإتيان المضغتين سيدهُ، لا داود عليه السلام قيل له‏:‏ بِمَ نلت هذه الحكم، وقد كنت راعياً‏؟‏ فقال بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني‏.‏ ه‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أول ما رؤى من حكمة لقمان‏:‏ أن مولاه أطال الجلوس في المخرج، فناداه لقمان‏:‏ إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد، ويورث الباسور، ويُصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هويناً، وقم هويناً» وروي أنه قَدِمَ من سفر، فقيل له‏:‏ مات أبوك، فقال‏:‏ الحمد لله، ملكتُ أمري، فقيل له‏:‏ ماتت امرأتك، فقال‏:‏ الحمد لله؛ جُدِّدَ فراشي، فقيل له‏:‏ ماتت أختك، فقال‏:‏ سُترت عورتي، فقيل له‏:‏ مات أخوك، فقال‏:‏ انقطع ظهري‏.‏ ه‏.‏

و «أَنْ»- في قوله‏:‏ ‏{‏أن أشكر‏}‏‏:‏ مفسرة؛ لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول، أي‏:‏ وقلنا له اشكر الله على ما أعطاك من الحكمة، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، وعبادةُ الله والشكر له، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حليماً في قوله وفعله ومعاشرته وصُحبته‏.‏

وقال الجنيد‏:‏ الشكر‏:‏ ألا يُعْصَى اللهُ بنعمه‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ألا ترى مع الله شريكاً في نعمه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الإقرار بالعجز عن الشكر‏.‏ والحاصل‏:‏ أن شكر القلب‏:‏ المعرفة، وشكر اللسان‏:‏ الحمد، وشكر الأركان‏:‏ الطاعة‏.‏ ورؤية العجز في الكل دليل القبول‏.‏ ‏{‏ومن يشكرْ فإنما يشكر لنفسه‏}‏؛ لأن منفعته تعود عليه، لأنه يريد المزيد، ‏{‏ومن كفرَ فإِنَّ الله غنيٌّ‏}‏؛ غير محتاج إلى شكر أحد، ‏{‏حميد‏}‏؛ حقيق بأن يُحمد، وإن لم يَحْمَدْهُ أحد‏.‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏اذ قال لقمان لابنه‏}‏، واسمه‏:‏ أنعم، أو أشكم، أو ناران، ‏{‏وهو يَعِظُهُ يا بُنَي‏}‏، تصغير ابن، لا تُشرك بالله؛ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏؛ لأنه تسوية بين مَنْ لاَ نِعْمَةَ إلا منه، ومن لا نعمة منه أصلاً‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ الحكمة‏:‏ الإصابة في الفعل والعقد والنطق‏.‏ ويقال‏:‏ الحكمة‏:‏ متابعة الطريق، مِنْ حَيْثُ توفيق الحق، لا من حيث هِمة النفس‏.‏ ويقال‏:‏ الحكمة‏:‏ ألا يكون تحت سلطان الهوى‏.‏ ويقال‏:‏ هي معرفةُ قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجاً عن كسائك‏.‏ ويقال‏:‏ ألا تستعصي على منْ تعلم أنك لا تقاومه‏.‏ وحقيقة الشكر‏:‏ انفتاح عين القلب لشهود ملاطفات الحق‏.‏ ويقال‏:‏ الشكرُ‏:‏ تَحَقُّقُكَ بعجزك عن شكره‏.‏ ويقال‏:‏ ما به يَحْصُلُ كَمَالُ استلذاذِ النعمة‏.‏ ويقال‏:‏ هو فضلةٌ تظهر على اللسان من امتلاء القلب من السرور، فينطق بمدح المشكور‏.‏ ويقال‏:‏ الشكر‏:‏ نعتُ كُلّ غنيٍّ، كما أن الكفران وصف كلِّ لئيم‏.‏ ويقال‏:‏ الشكر‏:‏ قرعُ باب الزيادة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ والأحسن‏:‏ أنه فرح القلب بإقبال المنعم، فيسري ذلك في الجوارح‏.‏

ثم قال في قوله‏:‏ ‏{‏لا تُشرك بالله‏}‏‏:‏ الشركُ على ضربين‏:‏ جَليّ وخفيّ، فالجليُّ؛ عبادة الأصنام، والخفيّ‏:‏ حسبان شيء من الحدثان من الأنام- أي‏:‏ أن تظن شيئاً مما يحدث في الوجود أنه من الأنام- ويقال‏:‏ الشرك‏:‏ إثباتُ غَيْنٍ مع شهود العين، ويقال‏:‏ الشرك ظلمٌ عَلَى القلب، والمعاصي ظلمٌ على النفس، فظلم النفس مُعَرَّضٌ للغفران، وظلم القلب لا سبيل للغفران إليه‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الجملتان معترضتان بين أجزاء توصية لقمان لابنه‏.‏ و‏(‏وَهْناً‏)‏‏:‏ حال من ‏(‏أمه‏)‏، أي‏:‏ حملته حال كونها ذَاتَ وَهْنٍ، أو من الضمير المنصوب، أي‏:‏ حملته نُطْفَةً، ثم علقة‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، أو مصدر، أي‏:‏ تهن وهناً‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسانَ بوالديه‏}‏؛ أن يَبَرَّهُمَا ويُطِيعَهُمَا، ثم ذكر الحامل على البر فقال‏:‏ ‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّه وَهْناً على وَهْنٍ‏}‏ أي‏:‏ تضعف ضعفاً فوق ضعف، أي‏:‏ يتزايد ضعفها ويتضاعف؛ لأن الحمل، كلما ازداد وعظم، ازدادت ثِقلاً‏.‏ ‏{‏وفِصَالهُ في عامين‏}‏ أي‏:‏ فطامه لتمام عامين‏.‏ وهذا أيضاً مما يهيج الولد على بر والديه، فيتذكر مَرْقده في بطن أمه، وتعبَها معه في مدة حَمْلِةِ، ثم ما قاست من وجع الطلق عند خروجه، ثم ما عالجته في أيام رضاعه؛ من تربيته، وغسل ثيابه، وسهر الليل في بكائه، إلى غير ذلك‏.‏

‏{‏أن اشكر لي ولوالديك‏}‏، هو تفسير لِوَصَّينَا، أو على حذف الجار، أي‏:‏ وصيناه بشكرنا وبشكر والديه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حملته أمه‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏:‏ اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر، لأنه لَمَّا وصى بالوالدين، ذكر ما تُكابده وتُعاينه من المشاق في حمله وفصاله، هذه المدة الطويلة؛ تذكيراً لحقها، مفرداً‏.‏

وعن ابن عُيَيْبَةَ‏:‏ من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين، في أدبار الصلوات الخمس، فقد شكرهما‏.‏ ه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ والإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما‏.‏ ثم قال‏:‏ فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير، وشكرُ الوالدين بالإشفاق والتوقير‏.‏ ه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إليَّ المصيرُ‏}‏ فأحاسبك على شكرك، أو كفرك‏.‏ ‏{‏وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به عِلْمٌ‏}‏، أراد بنفي العلم به نفيَه من أصله، أي‏:‏ أن تشرك بي ما ليس بشيء‏.‏ أو‏:‏ ما ليس لك به علم باستحقاقه الإشراك مع الله، بل تقليداً لهما، ‏{‏فلا تُطِعْهُما‏}‏ في ذلك الشرك‏.‏ ‏{‏وصاحبهما في الدنيا معروفاً‏}‏ أي‏:‏ صِحَاباً معروفاً يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم، وهو الخُلُقُ الجميل، بِحِلْمٍ، واحتفالٍ، وبر، وصلة‏.‏ وقد تقدم تفسيره في الإسراء‏.‏

‏{‏واتبع سبيل من أناب إلي‏}‏ أي‏:‏ اتبع طريق مَنْ رَجَعَ إليَّ بالتوحيد والإخلاص، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولاتتبع سبيلهما، وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا، وقال ابن عطاء‏:‏ اتبع سبيل من ترى عليه أنوار خدمتي‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ثم إليَّ مرجِعكُم‏}‏ أي‏:‏ مرجعك ومرجعهما، ‏{‏فأُنَبِئُكم بما كنتم تعملون‏}‏؛ فأجازيك على إيمانك وَبِرِّكَ وأجازيهما على كفرهما‏.‏ وَاعْتَرَضَ بهاتين الآيتين، على سبيل الاستطراد؛ تأكيداً لِمَا في وصية لقمان من النهي عن الشرك، يعني‏:‏ إنما وصيناه بوالديه، وأمرناه ألا يطيعَهُمَا في الشرك، وإن جاهدا كل الجهد؛ لقبح الشرك‏.‏

وتقدم أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وأنه مضت لأمه ثلاث ليال لم تَطْعم فيها شيئاً، فشكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل‏:‏ من أناب‏:‏ أبو بكر؛ لأن سعداً أسلم بدعوته‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ بر الوالدين واجب، لاسيما في حق الخصوص، فيطيعهما في كل شيء، إلا إذا منعاه من صحبة شيخ التربية، الذي يُطهر من الشرك الخفي، الذي لا ينجو منه أحد، فإن الآية تشمله بطريق العموم والإشارة‏.‏ أي‏:‏ وإن جاهداك على أن تشرك بي متابعة هواك وحظوظك ومحبتهن، فلا تُطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، واتبع سبيل من أناب إليَّ، هو شيخ التربية في علم الإشارة‏.‏ وقد تقدم قول الجنيد‏:‏ أمرني أبي بشيء، وأمرني السّري بشيء، فقدمت أمر السّري، فرأيت سراً كبيراً‏.‏ وكان شيخ شيوخنا الولي الشهير، سيدي يوسف الفاسي، يأتيه شاب من أولاد كبراء فاس، وكان أبوه ينهاه ويزجره عن صحبته، وربما بلغ لمجلس الشيخ فيؤذيه، فكان الشيخ يقول للشاب‏:‏ أطع أباك في كل شيء إلا في الإتيان إلينا‏.‏ ه‏.‏ وكان بعض المشايخ يقول‏:‏ ائتوني ولو بسخط الوالدين، إذ لا يضره ذلك، حيث قصد إصلاح نفسه ودواءها‏.‏

وقال الشيخ السنوسي، في شرح عقائد الجزائري، ما نصه‏:‏ وحاصل الأمر في النفس‏:‏ أنها شبيهة، في حالها، بحال الكافر الحَرْبِيّ، الذي يريد أن تكون كلمة الكفر هي العليا، وكلمة التوحيد السفلى، وكذلك النفس؛ تريد أن تكون كلمة باطلها من الدعاوى للحظوظ العاجلة، المُشْغِلة عن إخلاص العبودية لمولانا جل وعلا، وعن القيام بوظائف تكاليفه، على الوجه الذي أمر به، هي العليا، النافذ أمرها ونهيها في مُدُنِ الأجسام وما تعلق بها، بعد أن نزلت ساحة الأبدان، واتصلت اتصالاً عظيماً لا انفكاك له إلا بالموت، فوجب، لذلك، على كل مؤمن يُعظّم حرمات الله تعالى أن ينهض كل النهوض، بغاية قواه العِلمية والعملية، لجهادها وقتالها‏.‏ وفي مثل هذا القتال الذي نزل العدو فيه بساحة الأبدان، وهو فرض عين على كل مؤمن، يسقط فيه استئذان الأبوين وغيرهما‏.‏ ه‏.‏ فأنت ترى كيف جعل قيام النفس على العبد، وحجابها له عن ربه، كعدو يجب جهاده ولو خالف الوالدين، وهو كذلك؛ إذ طاعة الوالدين لا تكون في ترك فرض، ولا في ارتكاب معصية، ومن جملة المعاصي، عند الخواص، رؤية النفس والوقوف معها، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

فَقلتُ‏:‏ ومَا ذنبي‏؟‏ فَقَالَتْ؛ مُجِيبَةً ***‏:‏ وُجُودُكَ ذَنْبٌ لا يُقاس بِهِ ذَنْبُ

وتطهير النفس فرض عين، ولا طاعة للوالدين في فرض العين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وصاحبهما في الدنيا معروفاً‏)‏ قال الورتجبي‏:‏ المعروف، ها هنا، أن تُعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله‏.‏ ‏{‏واتبع سبيل من أناب إليَّ‏}‏، نهاه عن متابعة المخلَّطِين، وحثه على متابعة المنيبين‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏(‏إنها‏)‏‏:‏ للقصة، ومن قرأ «مثقال»‏:‏ بالرفع؛ ففاعِلُ كَانَ التامة ومن قرأ بالنصب؛ فخبرها، والضمير‏:‏ للخطيئة أو الهيئة‏.‏ وأنث «المثقال»؛ لإضافته إلى الحبة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ وقال لقمان لابنه، حين قال له‏:‏ يا أبت‏:‏ إن عَمِلْتُ بالخطيئة، حين لا يراني أحد، كيف يعلمها الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏يا بُنيَّ إنها‏}‏، أي‏:‏ القصة أو الخطيئة ‏{‏إن تكُ مثقال حبةٍ من خَرْدَلٍ‏}‏ أي‏:‏ إن تك المعصية؛ في الصغر والحقارة، مثالَ حَبَّةٍ من خردل، أو‏:‏ إن تقع مثقالُ حَبَّةٍ من المعاصي ‏{‏فتكن في صخرةٍ‏}‏، أي‏:‏ فتكن، مع صغرها، في أخفى مكان، أو في جبل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هي صخرة تحت الأَرَضين السبع، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة الماء منها‏.‏ ه‏.‏ قال السدي‏:‏ خلق الله تعالى الأرض على حوت، والحوت في الماء، والماء على ظهر صَفَاةٍ- أي‏:‏ صخرة- والصفاة على ظهر ملَكَ، والملك على صَخْرَة‏.‏ وهي الصخرة التي ذكر لقمان‏.‏ ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الريح‏.‏ ه‏.‏

أي‏:‏ إن تقع المعصية في أخفى مكان ‏{‏يأتِ بها اللهُ‏}‏ يوم القيامة؛ فيحاسب عليها عاملها‏.‏ ‏{‏إن الله لطيفٌ‏}‏‏:‏ يتوصل علمه إلى كل خفي، ‏{‏خبير‏}‏‏:‏ عالم بكنهه، أو‏:‏ لطيف باستخراجها خبير بمستقرها‏.‏

‏{‏يا بُني أقم الصلاةَ‏}‏‏:‏ أتقنها، وحافظ عليها؛ تكميلاً لنفسك، ‏{‏وأْمُر بالمعروف وَانْهَ عن المنكر‏}‏؛ تكميلاً لغيرك، ‏{‏واصبرْ على ما أصابك‏}‏ في ذات الله تعالى، إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر؛ فإن فعل ذلك تعرض للأذى، أو‏:‏ على ما أصابك من الشدائد والمحن؛ فإنها تورث المنح والمنن‏.‏ ‏{‏إِن ذلك‏}‏؛ الذي وصيتك به، ‏{‏من عزم الأمور‏}‏ أي‏:‏ مما عزمه الله من الأمور، أي‏:‏ قَطَعَه قطع إيجاب وإلزام، أي‏:‏ أمر به أمراً حتماً‏.‏ وهو مصدر بمعنى المفعول، أي‏:‏ من معزومات الأمور، أي‏:‏ مقطوعاتها ومفروضاتها‏.‏ وفيه دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم‏.‏

‏{‏ولا تُصَعِّر خَدكَ للناس‏}‏ أي‏:‏ تُمله عنهم، ولا تولهم صفَحة خدك، كما يفعله المتكبرون‏.‏ والتصعير‏:‏ داء يصيب العير، فيلوى عُنُقَهُ منه‏.‏ والمعنى‏:‏ أَقْبِل على الناس بوجهك؛ تواضعاً، ولا تُولهم شق وجهك وصفحته؛ ‏{‏ولا تمشِ في الأرض مرحاً‏}‏؛ خُيَلاَءَ؛ متبختراً، فهو مصدر في موضع الحال، أي‏:‏ مَرِحاً، أو تمرح مرحاً، أو‏:‏ لأجل المرح، ‏{‏إن الله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ‏}‏، علة النهي‏.‏ والمختال هو المرِحُ الذي يمشي خيلاء، والفخور هو المُصَعِّرُ خَدَّهُ؛ تكبراً‏.‏ وتأخير الفخور، مع تقدمه؛ لرؤوس الآي‏.‏

‏{‏واقصِدْ في مشيك‏}‏؛ توسط فيه بين الدبيب والإسراع، فلا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثوب الشطارين، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنَّ سُرْعَةَ المَشي تُذْهِبُ بَهَاءِ المُؤْمِنِ»

وأما قول عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏كان إذا مَشَى أسْرَع‏)‏؛ فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ كانوا ينهون عن خَبَبِ اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيك‏}‏‏:‏ انظر موضع قدميك، أو‏:‏ اقصد‏:‏ تَوَسَّطْ بين العلو والتقصير‏.‏

‏{‏واغضض من صوتك‏}‏؛ وانقص منه، أي‏:‏ اخفض صوتك‏.‏ كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت، فنهى الله عن خُلُق الجاهلية، فذكره لوصية لقمان، وأنه لو كان شيء يُهَابْ، لرفع صوته لكان الحمار، فجعلهم في المثل سواء‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِن أنكَرَ الأصواتِ‏}‏؛ أوحشها وأقبحها ‏{‏لصوتُ الحمير‏}‏؛ لأن أوله زفير، وآخره شهيق، كصوت أهل النار‏.‏ وعن الثوري‏:‏ صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار، فإنه يصيح لرؤية الشيطان، وقد سماه الله منكراً، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير؛ تنبيه على أن رفع الصوت في غاية البشاعة، ويؤيده‏:‏ ما رُوِيَ أنه‏:‏ عليه الصلاة والسلام- كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون مجهور الصوت‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ رفع الصوت محمود في مواطن؛ منها‏:‏ الأذان والتلبية‏.‏ وقال في الحاشية الفاسية‏:‏ بل ينبغي الاقتصاد في ذلك، كما قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ أَذِّن أذاناً سنِّياً، وإلا اعتزلنا‏.‏ ه‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لاَ تَدْعُون أصمَّ ولا غَائباً» وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع؛ لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده‏.‏

الإشارة‏:‏ قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية، تدل على كمال صاحبها، منها‏:‏ استحضار مراقبة الحق ومشاهدته، في السر والعلانية، في الجلاء والخفاء‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏يا بُني إنها تلك مثقالَ حبة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ ومنها‏:‏ القيام بوظائف العبودية، بدنية ولسانية، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يا بُني أقم الصلاة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سائر عبادات اللسان، ومنها الصبر على النوائب، سواء كانت من جهة الخلق، أو من قهرية الحق، وهو ركن في الطريق‏.‏ وتقدم تفصيله في آخر النحل‏.‏ ومنها‏:‏ التواضع والليونة، وهما مصيدة الشرف، ومن شأن أهل السياسة‏.‏ ومن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولا تُصعر خدَّك للناس ولا تمش في الأرض مرحا‏}‏‏.‏ ومنها‏:‏ السكينة والوقار والرزانة، وهي نتيجة عمارة القلب بالهيبة والإجلال‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيك‏}‏‏.‏ ومنها‏:‏ خفض الصوت في سائر الكلام، وهو من علامة وجدان هيبة الحضرة، والقرب من الحق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏، وهو من آكد الآداب مع الأشياخ والفقراء‏.‏

قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأْمُر بالمعروف‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغُهُ أن تمنع نفسك عما تنهى عنه، واشتغالك، واتصاف نفسك، بما تأمر به غيرك، ومنْ لا حُكْم له على نفسه؛ لا حُكْم له على غيره‏.‏

والمعروف الذي يجب الأمر به‏:‏ ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى مولاه، والمنكر الذي يجب النهي عنه‏:‏ ما يشغل العبد عن الله‏.‏ ثم قال‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر على ما أصباك‏}‏‏:‏ تنبيه على أنَّ مَنْ قام لله بحقِّ امْتُحِنَ في الله، فسبيله أن يصبرَ في الله، فإنَّ من صبر لله لم يخسر على الله‏.‏

ثم قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏}‏؛ لا تتكبرْ عليهم، وطالِعْهم مِنْ حَيْثُ النسبة، وتحقق بأنكَ بمشهدٍ من مولاك‏.‏ ومن عَلِمَ أن مولاه ينظر إليه؛ لا يتكبرُ ولا يتطاول، بل يتخاضع ويتضاءل‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيك‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ كُنْ فانياً عن شواهدك، مُصْطَلَماً عن صَوْلَتِك، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتك، متشبهاً بما استولى عليك من كشوفات سِرِّك‏.‏ وانظر مَنِ الذي يسمع صوتك حين تستفيق من خُمَارِ غفلتك، ‏{‏إن أنكر الأصوات لصوت الحمير‏}‏‏:‏ في الإشارة‏:‏ أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذنٍ من الحق‏.‏ وقالوا‏:‏ هو الصوفي يتكلم قبل أوانه‏.‏ ه‏.‏ أي يتكلم على الناس، قبل أن يأذن له شيخه في التذكير‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض‏}‏، يعني‏:‏ الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وغير ذلك، ‏{‏وما في الأرض‏}‏، يعني‏:‏ البحار والأنهار، والأشجار، والثمار، والدواب، والمعادن، وغير ذلك، ‏{‏وأسْبَغَ‏}‏‏:‏ أتم ‏{‏عليكم نِعَمَه‏}‏، بالجمع، والإفراد؛ إرادة الجنس‏.‏ والنعمة‏:‏ ما يسر به الإنسان ويتلذذ به، حال كونها ‏{‏ظاهرةً‏}‏؛ ما تدرك بالحس، ‏{‏وباطنة‏}‏؛ ما تدرك بالعلم والوجدان‏.‏ فقيل‏:‏ الظاهرة‏.‏ السمع، والبصر، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة‏:‏ القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك‏.‏ أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ الصحة والعافية، والكفاية؛ والباطنة‏:‏ الإيمان، واليقين، والعلم والمعرفة بالله، وسيأتي في الإشارة بقيتها‏.‏

رُوي أن موسى عليه السلام قال‏:‏ دُلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال‏:‏ أخفى نعمتي عليهم‏:‏ النَّفسُ‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها‏.‏ وفي هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول‏:‏ جزاها الله عنا خيراً؛ ما ربحنا إلا منها‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهرة‏:‏ تحسين الخلْق، والباطنة‏:‏ حُسْنُ الخلقُ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الظاهرة‏:‏ ما سوى من خلقك، والباطنة‏:‏ ما ستر من عيوبك‏.‏

‏{‏ومن الناس من يُجادل في الله‏}‏ بعد هذه النعم المتواترة، أي‏:‏ في توحيده وصفاته ودينه، ‏{‏بغير علم‏}‏ مستفاد من دليل ولا برهان، ‏{‏ولا هُدىً‏}‏ اي‏:‏ هداية رسول، ‏{‏ولا كتاب منير‏}‏ أنزله الله، بل بمجرد التقليد الردي‏.‏ نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وقد تقدمت في الحج‏.‏

‏{‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله‏}‏ على رسوله؛ من التوحيد، والشرائع، ‏{‏قالوا بل نتبعُ ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ من عبادة الأصنام‏.‏ وهو دليل منع التقليد في الأصول‏.‏ قاله البيضاوي قلت‏:‏ والمشهور أن إيمان المقلِّد صحيح‏.‏ وأما من قلَّد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينظر، فهو مؤمن، اتفاقاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَو‏}‏؛ أيتبعونهم، ولو ‏{‏كان الشيطانُ يدعوهم إلى عذاب السعير‏}‏، يحتمل أن يكون الضمير لهم، أي‏:‏ أيقلدونهم، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب، أو‏:‏ لآبائهم، أي‏:‏ أيتبعون آباءهم، ولو كان الشيطان في زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير‏.‏

الإشارة‏:‏ الأكوان كلها خُلِقَتْ لك أيها الإنسان، وأنت خُلِقْتَ للحضرة، فاعرف قَدْرَكَ، ولاتتعدَّ طَوْرَكَ، واشكر النعم لتي أسبغ عليك؛ ظاهرة وباطنة‏.‏ الظاهرة‏:‏ استقامة الظواهر في عمل الشرائع، والباطنة‏:‏ تصفية البواطن؛ لتتهيأ لأنوار الحقائق، أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ المنن، والباطنة‏:‏ المحن‏.‏ قال القشيري‏:‏ قد تكلموا في الظاهرة واباطنة وأكثروا‏.‏

فالظاهرةُ‏:‏ وجودُ النعمة، والباطنةُ‏:‏ شهودُ المنعِم، أو‏:‏ الظاهرةُ‏:‏ الدنيويةُ، والباطنة‏:‏ الدينية‏.‏ أو‏:‏ الخلْق والخُلق، أو‏:‏ نَفْس بلا زَلَّة، وقلبٌ بلا غفلة، أو‏:‏ عطاء ورضى‏.‏ أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ في الأموال ونمائها، والباطنة‏:‏ في الأحوال وصفائها، أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ النعمةُ، والباطنة‏:‏ العصمةُ، أو‏:‏ الظاهرةُ‏:‏ توفيقُ الطاعات، والباطنة‏:‏ قبولُها، أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ صحبة العارفين، والباطنةُ‏:‏ حِفْظُ حُرْمَتِهم وتعظيمهم‏.‏

أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ الزهدُ في الدنيا، والباطنة‏:‏ الاكتفاءُ بالله من الدنيا والعُقبى‏.‏ أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ الزهد، والباطنة‏:‏ الوَجْدُ‏.‏ أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ توفيق المجاهدة، والباطنة‏:‏ تحقيقُ المشاهدة، أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ وظائف النَّفْس، والباطنة‏:‏ لطائف القلب، أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ اشتغالُك بنفسك عن الخلق، والباطنة‏:‏ اشتغالك بربَّك عن نفسك، أو‏:‏ الظاهرة‏:‏ طَلَبَهُ، والباطنة‏:‏ وجودُه، أو‏:‏ الظاهرةُ‏:‏ أنْ تَصِلَ إليه، والباطنة‏:‏ أن تبقى معه‏.‏ ه‏.‏ ببعض المعنى‏.‏

ثم قال القشيري‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ لم يتخطوا أمثالَهم، ولم يهتدوا إلى تحوِّل أحوالهم‏.‏ ه‏.‏ يعني‏:‏ قلدوا أسلافكم في الإقامة مع الرسوم والأشكال، والانهماك في الحظوظ، فعاقبهم ذلك عن السير والوصول‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال في الحاشية‏:‏ لّمَّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم، وعدّاه هنا بإلى، وفي قوله‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏، باللام؛ لأنه لَمَّا كان المجادل غير مُعين، ولم يخص له واحداً بعينه، عقَّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام، ومَدْحُهُ يتناول مَدْحَ مَنِ اتصف بأخص الاستسلام‏.‏ أو‏:‏ في الآية الأخرى أتى به خاصاً، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله‏:‏ ‏{‏فله أجره‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه، فإن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء، و«إلى»‏:‏ لا تقتضي ذلك‏.‏ انظر ابن عرفة‏.‏

وقال النسفي‏:‏ عدّاه هنا بإلى وهناك باللام؛ لأن معناه، مع اللام‏:‏ أنه جعل وجهه- وهو ذاته ونفسه- سالماً لله، أي‏:‏ خالصاً له، ومعناه، مع «إلى»‏:‏ أنه سلّم نفسه كما يُسلم المتاع إلى الرجل، إذا دفع إليه‏.‏ والمراد‏:‏ التوكل عليه والتفويض إليه‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ فهو أبلغ من اللام، ومثله البيضاوي‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ومن يُسْلِمْ وَجْهَه إلى الله‏}‏ أي‏:‏ ينقد إليه بكليته، وينقطع إليه بجميع شراشره، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه، ‏{‏وهو محسن‏}‏ في أعماله‏.‏ قال القشيري‏:‏ من أَسْلَمَ نَفْسُه، وأخلص في الله قَصْدَهُ، فقد استمسك بالعروة الوثقى‏.‏ ه‏.‏ فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏وهو محسن‏}‏‏.‏ قاله المحشي‏.‏ وقلت‏:‏ وفيه نظر؛ فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام، وإنما المعنى‏:‏ أسلم وجهه في الباطن، وهو محسن بالعمل في الظاهر، ‏{‏فقد استمسك بالعُرْوَةِ الوُثْقَى‏}‏، أي‏:‏ تعلق بأوثق ما يتعلق به؛ فالعروة‏:‏ ما يستمسك به‏.‏ والوثقى‏:‏ تأنيث الأوثق‏.‏ مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل، فاحتاط لنفسه، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين، مأمونٍ انقطاعُهُ‏.‏ قال الهروي‏:‏ أي‏:‏ تمسك بالعقد الوثيق‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ أصله‏:‏ من عروة الكلأ، وهو‏:‏ ماله أصل ثابت في الأرض، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض‏.‏ ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به ويُلْجأُ إليه‏.‏ ه‏.‏

وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً، والآخِذُ به، مُّتصلاً بالله، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً، بخلاف الشرك، فإنه على الضد، كما يرشد إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 26‏]‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 31‏]‏ الآية‏.‏

‏{‏وإلى الله عاقبة الامور‏}‏ أي‏:‏ صائرة إليه فيُجازى عليها‏.‏

‏{‏ومن كَفَرَ‏}‏؛ ولم يسلم وجهه لله، ‏{‏فلا يَحْزُنك كُفْرُه‏}‏؛ فلا يهمك شأنه، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه، ‏{‏إلينا مرجعُهم فننبئهم بما عملوا‏}‏، أي‏:‏ فنعاقبهم على أعمالهم، ‏{‏إن الله عليم بذات الصور‏}‏، أي‏:‏ عالم بحقائق الصدور، وما فيها، فيجازى على حسبها، فضلاً عما في الظواهر، ‏{‏نُمتعهم قليلاً‏}‏، أي‏:‏ نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم، ‏{‏ثم نضطرهم‏}‏، نلجئهم ‏{‏إلى عذابٍ غليظٍ‏}‏ شديد‏.‏

شبَّه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم إليه، باضطرار المضطر إلى الشيء‏.‏ والغِلظ‏:‏ مستعار من الأجرام الغليظة، والمراد‏:‏ الشدة والثَّقَلُ على المُعَذِّبِ‏.‏ عائذاً بالله من موجبات غضبه‏.‏

الإشارة‏:‏ ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه، وغاب عن كل ما سواه، وهو من أهل مقام الإحسان، بأن أشرقت عليه شمس العيان، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً‏.‏ ومن أمارات الانقياد‏:‏ ترك التدبير والاختيار، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار‏.‏ ‏{‏وإلى الله عاقبة الأمور‏}‏؛ فيوصل من يشاء برحمته، ويقطع من يشاء بعدله‏.‏ ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه؛ فلا يحزنك، أيها العارف، فعله، إلينا إيابهم، وعلينا حسابهم، فَسَنُمَتَّعهُمْ بحظوظهم، والوقوف مع عوائدهم، زماناً قليلاً، ثم نضطرهم إلى غم الحجاب وسوء الحساب‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنَّ الله‏}‏؛ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، فيضطرون إلى الإقرار بذلك، ‏{‏قل الحمدُ لله‏}‏ على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم من شرك الأصنام، ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ إن ذلك يلزمهم إذا نبهوا عليه، ولم ينتبهوا، فالإضراب عن كلام محذوف، أي‏:‏ فيجب عليهم أن يعبدوا الله وحده، لمّا اعترفوا، ولكنهم لا يعلمون، ‏{‏لله ما في السماوات والأرض‏}‏ ملكاً وعبيداً، ‏{‏إنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ‏}‏، أي‏:‏ الغني عن حمد الحامدين، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد اتفقت الملل على وجود الصانع‏.‏ ثم وقفت العقول في مقام الحيرة والاستدلال، وامتدت الأرواح والأسرار بأعناقها إلى معرفة الذات وشهودها، فمن وَجَدَتْ عارفاً كاملاً سلك بها الطريق، حتى أوقعها على عين التحقيق، فأشرفت على البحر الزاخر، فغرقت في بحر الذات وتيار الصفات، ثم رجعت إلى بر الشريعة لتدل غيرها على الوصول‏.‏ وقل الحمد لله أَنْ وَجَدْتَ من يعرفك بالله، وأكثر الخلق حائدون عن العلم بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ولو أنما في الأرض‏)‏‏:‏ مذهب الكوفيين وجماعة‏:‏ أن ما بَعد «لو»‏:‏ فاعل بفعل محذوف، أي‏:‏ ولو ثبت كون ما في الأرض‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ومذهب سيبويه‏:‏ أنه مبتدأ، أي‏:‏ ولو كون ما في الأرض واقع، و‏(‏البحر‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏يمده‏)‏‏:‏ خبره، أي‏:‏ يمد ما ذكر من الأقلام‏.‏ و‏(‏من بعده سبعةُ أبحر‏)‏‏:‏ مبتدأ وخبر‏.‏ وحذف التمييز، أي‏:‏ ‏(‏مداداً‏)‏، يدل عليه ‏(‏يمده‏)‏، أو ‏(‏سبعة‏)‏‏:‏ فاعل ‏(‏يمده‏)‏، أي‏:‏ يصب فيه سبعةُ أبحر، والجملة‏:‏ حال، أي‏:‏ ولو أن الأشجار أقلام، في حال كون البحر ممدوداً، ما نفذت‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وجملة ‏(‏يمده‏)‏‏:‏ خبر ‏(‏البحر‏)‏‏.‏ ومن قرأ بالنصب فعطف على اسم «إن»، وهو ‏(‏ما‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولو أنّ ما في الأرض من شجرة‏}‏ من الأشجار ‏{‏أقلام‏}‏، والبحر يمد تلك الأقلام، يصب في ذلك البحر ‏{‏سبعةُ أبحر‏}‏، وتلك الأقلام كلها تكتب كلمات الله الدالة على عظمته وكمالاته، ‏{‏ما نَفِدَتْ‏}‏ كلماته، ونفدت الأقلام، وجفت تلك الأبحر، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ مع زيادة المبالغة بذكر السبعة أبحر، يقال‏:‏ مد الدواة وأمدها‏:‏ جعل فيها مداداً، فجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مدادها، وفروع الأشجار كلها أقلام تكتب كلماته تعالى، فلو قدر ذلك لتكسرت الأقلام وجفت الأبحر، قبل ان تنفد كلماته تعالى؛ لأنها تابعة لعلمه، وعلمه لا نهاية له‏.‏

وإنما وحدَّ الشجرة؛ لأن المراد تفصيل الشجر وتقَصِيها؛ شجرة شجرة، حتى ما يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة إلا وقد بُريت أقلاماً‏.‏ وأوثر الكلمات، وهي من حيز جمع القلة، على الكَلِم، الذي هو جمع الكثرة؛ لأن المعنى‏:‏ أن كلماته لا يفي بها الأقلام؛ فكيف بكلامه الكَثير‏؟‏‏.‏

‏{‏إن الله عزيزٌ‏}‏ لا يُعجزه شيء، ‏{‏حكيم‏}‏ لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، فلا تنفد كلماته وحكمته‏.‏ والآية جواب اليهود، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قلنا‏:‏ الآية مدنية، أو‏:‏ أَمروا وَفد قريش أن يسألوه عن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏، فقالوا‏:‏ هل عنيتنا أمْ قومك‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كُلاّ قد عنيت» فقالوا‏:‏ أليس فيما قد أوتيت أنَّا قد أُوتينا التوراة، فيها علم كل شيء‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هي في علم الله قليل»، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ولو أنما‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏

ولما ذكر شأن كلامه وعلمه؛ ذكر شأن قدرته، فقال‏:‏ ‏{‏ما خلْقُكُمْ ولا بعثُكُم إلا كنَفْسٍ واحدةٍ‏}‏، أي‏:‏ إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة‏.‏ فحُذف، للعلم به، أي‏:‏ القليل والكثير في قدرة الله تعالى سواء، فلا يشغله شأن عن شأن، وقدرته عامة التعلق، تَنْفُذُ أسرع من لمح البصر‏.‏

قال الغزالي في الإحياء‏:‏ ومن غريب حِكَم الآخرة أن الرجل يُدعى به إلى الله تعالى، فيُحاسب ويُوبخ، وتُوزن له حسناته وسيئاته، وهو في ذلك كله يظن أن الله لم يحاسب إلا هو، ولعل آلاف آلاف ألف مثله في لحظة واحدة‏.‏ وكل منهم يظن ظنه، لا يرى بعضهم بعضاً، ولا يسمعه، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إن الله سميع‏}‏ لقول من يُنكر البعث من المشركين، ‏{‏بصيرٌ‏}‏ بأعمالهم، فيجازيهم‏.‏

الإشارة‏:‏ أوصاف الباري سبحانه كلها كاملة، غير محصورة ولا متناهية؛ من علم، وقدرةٍ، وإرادة، وكلام، وغيرها‏.‏ وأوصاف العبد كلها قصيرة متناهية، وقد يمد الحقُّ عبده بصفة من صفاته التي لا تتناهى، فإذا أمده بصفة الكلام تكلم بكلام تعجز عنه العقول، لا يقدر على إمساكه، فلو بقي يتكلم عمرَه كله ما نفد كلامه، حتى يُسكته الحق تعالى‏.‏ وقد كان بعض السادات يقول لأصحابه، حين يتكلم عليهم‏:‏ إني لأستفيد من نفسي كما تستفيدون أنتم مني، وذلك حين الفيض الإلهي‏.‏ وإذا أمده بصفة القدرة، قدر على كل شيء، وإذا أمده صفة السمع؛ سمع كل شيء، وإذا أمده بصفة البصر، أبصر كل موجود‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏ وهذه الأوصاف كامنة في العبد من حيث معناه، احتجبت بظهور أضدادها؛ صوناً لسِّر الربوبية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ أن الله يُولج الليلَ في النهارِ‏}‏؛ يُدخل ظلمة الليل في وضوء النهار، إذا أقبل الليل، ‏{‏ويُولج النهارَ في الليل‏}‏؛ يُدخل ضوء النهار في ظلمة الليل، إذا أقبل النهار‏.‏ أو‏:‏ بإدخال جزء أحدهما في الآخر؛ بزيادة الليل أو النهار‏.‏ ‏{‏وسخَّر الشمسَ والقمرَ‏}‏ لمنافع العباد، ‏{‏كلٌّ‏}‏، أي‏:‏ كل واحد من الشمس والقمر ‏{‏يجري‏}‏ في فلكه، ويقطعه، ‏{‏إلى أجل مُسَمّى‏}‏؛ إلى يوم القيامة‏:‏ أو‏:‏ إلى وقت معلوم للشمس، وهو تمام السنة، والقمر إلى آخر الشهر‏.‏ ‏{‏وإن الله بما تعملون خبير‏}‏؛ عالم بكنهه، لا يخفى عليه شيء‏.‏ فدل، بتعاقب الليل والنهار، أو بزيادتهما ونقصانهما، وَجَرْي النيرين في فلكهما، على تقدير وحساب معلوم، وبإحاطته جميع أعمال الخلق، على عظيم قدرته، وكمال علمه وحكمته‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ شاهد ‏{‏بأن الله هو الحقُّ‏}‏، وما سواه باطل، ‏{‏وأن ما تدعون من دونه الباطل‏}‏؛ المعدوم في حد ذاته، لا حقيقة لوجوده‏.‏ أو‏:‏ ذلك الذي وصف بما وصف به، من عجائب قدرته وباهر حكمته، التي يعجر عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله‏؟‏ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية، وأن مَن دونه باطل ألوهيته، ‏{‏وأن الله هو العلي الكبير‏}‏، أي‏:‏ العلي الشأن، الكبير السلطان‏.‏

‏{‏ألم تَرَ أن الفلكَ‏}‏؛ السفن ‏{‏تجري في البحر بنعمةِ الله‏}‏ بإحسانه ورحمته، أو‏:‏ بالريح، لأن الريح من نعم الله‏.‏ أو‏:‏ ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع، فالباء، حينئذٍ، للأرزاق، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول إنعامه‏.‏ ‏{‏ليُريَكم من آياته‏}‏؛ من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموه، ‏{‏إن في ذلك لآياتٍ‏}‏ دالة على وحدانيته وكمال صفاته؛ ‏{‏لكل صبَّارٍ‏}‏ في بلائه، ‏{‏شكورٍ‏}‏ لنعمائه‏.‏ وهما من صفة المؤمن‏.‏ فالإيمان نصفان، نصف شكر ونصب صبر، فلا يَعْتَبِرُ بعجائب قدرته إلا من كان هكذا‏.‏

‏{‏وإِذا غَشِيَهُم‏}‏، أي‏:‏ الكفار، أي‏:‏ علاهم وغطاهم ‏{‏موجٌ كالظُّلَلِ‏}‏، أي‏:‏ كشيء يظل؛ من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل؛ جمع ظُلة، وهو ما أظلك من جبل أو سقف‏.‏ فإذا غشيهم ذلك؛ ‏{‏دَعَوُاْ الله مخلصين له الدينَ‏}‏، لا يدعون معه غيره، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية‏.‏ ‏{‏فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقْتَصِدٌ‏}‏؛ مقيم على الطريق القصد، باقٍ على الإيمان، الذي هو التوحيد، الذي كان منه في حال الشدة، لم يعد إلى الكفر، أو‏:‏ متوسط في الظلم والكفر، انزجر بعض الانزجار‏.‏ ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان‏.‏ أو مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني‏:‏ أن ذلك الإخلاص لحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، إلا النادر، ‏{‏وما يجحد بآياتنا‏}‏ أي‏:‏ بحقيقتها ‏{‏إلا كل ختَّارٍ‏}‏؛ غدار‏.‏

والختْر‏:‏ أقبح الغدر، ‏{‏كفورٍ‏}‏ لنعم ربه‏.‏ وهذه الكلمات متقابلة؛ لفظاً ومعنى، فَخَتَّارٌ‏:‏ مقابل صبّار، وكفور‏:‏ مقابل شكور؛ لأن من غدر لم يصبر، ومن كفر لم يشكر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط، ونهار البسط في ليل القبض، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار، فإذا تأدب مع كل واحد منهما؛ زاد بهما معاً، وإلا نقص بهما، أو بأحدهما‏.‏ فآداب القبض‏:‏ الصبر والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار‏.‏ وآداب البسط‏:‏ الحمد، والشكر، والإمساك عن الفضول في كل شيء‏.‏ وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان، كلٌّ يجري إلى أجل مسمى؛ فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان‏.‏ ذلك بأن الله هو الحق، وما سواه باطل‏.‏ فإذا جاء الحق، بطلوع شمس العيان، زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً‏.‏ وإنما أثبته الوهم والجهل‏.‏ ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت‏؟‏ إن في ذلك لآياتٍ لكل صبَّار على مجاهدة النفس، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ‏.‏

وإذا غشيهم،، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة، موج من أنوار ملكوته، فكادت تدهشهم، تضرعوا والتجأوا إلى سفينة الشريعة، حتى يتمكنوا فلما نجاهم إلى بر الشريعة، فمنهم مقتصد؛ معتدل بين جذب وسلوك، بين حقيقة وشريعة، ومنهم‏:‏ غالبٌ عليه السكر والجذب، ومنهم‏:‏ غالب عليه الصحو والسلوك‏.‏ وكلهم أولياء الله، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏وإذا غشيهم موج كالظلل‏}‏؛ إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحارالتقدير، تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم‏.‏

فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ، ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا، *** أَحِبَّاءَنَا‏:‏ كَمْ تَجْهَلُونَ وَنَحْلُمُ‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏بأي أرض‏)‏؛ قال في المصباح‏:‏ الأفصح‏:‏ استعمال «أي» في الشرط والاستفهام بلفظ واحد، للمذكر والمؤنث، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 81‏]‏، وقد تطابق في التذكير والتأنيث، نحو أَيُّ رَجُلٍ، وأي وأية امرأة‏.‏ وفي الشاذ‏:‏ بأية أرض تموت‏.‏ ه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أيها الناس اتقوا ربكم‏}‏؛ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بطاعته وترك معصيته‏.‏ ‏{‏واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده‏}‏ شيئاً، لا يقضى عنه شيئاً، ولا يدفع عنه شيئاً‏.‏ والأصل‏:‏ لا يجزى فيه، فحذف‏.‏ ‏{‏ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً‏}‏، وتغيير النظم في حق الولد، بأن أكده بالجملة الاسمية وبزيادة لفظ ‏(‏هو‏)‏، وبالتعبير بالمولود؛ للدلالة على حَسْمِ أطماعهم في أن ينفعوا آبائهم الذين ماتوا على الكفر؛ بالشفاعة في الآخرة‏.‏ ومعنى التأكيد في لفظ المولود‏:‏ أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه، فضلاً عن أن يشفع لأجداده، لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود؛ لأنه لِمَا وُلِدَ منك‏.‏ كذا في الكشاف‏.‏ قلت‏:‏ وهذا في حق الكفار، وأما المؤمنون؛ فينفع الولد والده، والوالد ولده بالشفاعة، كما ورد في قارئ القرآن والعالمِ، وكل من له جاه عند الله، كما تقدم في سورة مريم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ وعدَ الله‏}‏ بالبعث والحساب والجزاء، ‏{‏حقٌّ‏}‏ لا يمكن خلفه، ‏{‏فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا‏}‏؛ بزخارفها الغرارة؛ فإِنَّ نعمها دانية، ولذاتها فانية، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء، بالزهد فيها، والتفرغ لِمَا يرضي الله، من توحيده وطاعته، ‏{‏ولا يغُرُّنَّكم بالله‏}‏، أي‏:‏ لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحلمه، أو‏:‏ لا يوقعنكم في الجهل بالله والغرة به، ‏{‏الغرورُ‏}‏ أي‏:‏ الشيطان، أو‏:‏ الدنيا، أو‏:‏ الأمل‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «الكيسَ من دَانَ نَفسَهُ وعَمِلَ لَمَا بَعْدَ المَوْتِ، والأحمقُ من أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنَّى عَلَى الله الأمَاني» وفي الحديث أيضاً‏:‏ «كَفَى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً»‏.‏

‏{‏إن الله عنده علمُ الساعة‏}‏ أي‏:‏ وقت قيامها، فلا يعلمه غيره، فتأهبوا لها، قبل أن تأتيكم بغتة‏.‏ ‏{‏ويُنزل الغيث‏}‏‏:‏ عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل، أي‏:‏ إن الله يُثبت عنده علم الساعة، ويُنزل الغيث في وقته، من غير تقديم ولا تأخير، وفي محله، على ما سبق في التقدير، ويعلم كم قطرة ينزلها، وفي أي بقعة يمطرها‏.‏ ‏{‏ويعلم ما في الأرحام‏}‏؛ أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وشقي أو سعيد، وحسن أو قبيح‏.‏ ‏{‏وما تدري نفس ماذا تكْسِبُ غداً‏}‏ من خير أو شر، ووفاق وشقاق، فربما كان عازمة على الخير فعملت شراً، أو على شر فعملت خيراً‏.‏ ‏{‏وما تدري نفس بأي أرضٍ تموتُ‏}‏ أي‏:‏ أين تموت، فربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت‏:‏ لا أبرحُها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها‏.‏

رُوي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل‏:‏ مَن هذا‏؟‏ فقال‏:‏ ملك الموت، فقال‏:‏ كأنه يُريدني، فسأل سليمانَ أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد لهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان‏:‏ كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أُمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك‏.‏ ه‏.‏

وجعل العلم لله والدرايةَ للعبد، لِمَا في الدراية من معنى التكسب والحيلة، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها‏.‏ وأما المنجم الذي يُخبر بوقت الغيث والموت؛ فإنه يقول بالقياس والنظر في المطالع، وما يُدرَك بالدليل لا يكون غيباً، على أنه مجرد الظن، والظن غير العلم‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب‏.‏ وجاءه يهودي منجم، فقال‏:‏ إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول عليّ الحول حتى أموت‏.‏ قال له‏:‏ أين موتك‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري، فقال ابن عباس‏:‏ صدق الله‏:‏ ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏‏.‏ ورأى المنصورُ في منامه ملك الموت، وسأله عن مدة عمره، فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنين، وبخمسة أشهر وبخمسة أيام‏.‏ فقال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ هو إشارة إلى هذه الآية، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله‏.‏ ه‏.‏

وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته‏:‏ قيل‏:‏ أن الله تعالى يعلم الأشياء بالوَسم والرسم، والرسم يتغير، والوسم لا يتغير، فقد أخفى الله تعالى الساعة، ولم يخف أمارتها، كما جاء عن صاحب الشرع‏.‏ وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه، ولكن لا من كل وجوهه، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره، وبالجملة فعلمُ ما يكون من الخواص، جُملة لا تفصيلي، وجزئي لا كُلي، ومقيد لا مطلق، وعرضي لا ذاتي، بخلاف علمه تعالى‏.‏ ه‏.‏

قال المحلي‏:‏ روى البخاري؛ عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب الخمس‏:‏ ‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏‏.‏ ونقل ابن حجر عن ابن أبي جمرة، بعد كلام، ما نصه‏:‏ والحكمة في جعلها خمسة‏:‏ الإشارة إلى حصر العوالم فيها، ففي قوله‏:‏ ‏{‏ما تغيض الأرحام‏}‏‏:‏ الإشارة إلى ما يزيد في الإنسان وما ينقص‏.‏ وخص الرحم بالذكر، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها، فغيرها بطريق الأولى‏.‏ وفي قوله‏:‏ لا يعلم متى يأتي المطر‏:‏ إشارة إلى أمور العالم العلوي، وخص المطر مع أن له أسباباً قد تدل على وقوعه، لكنه من غير تحقيق‏.‏ وفي قوله‏:‏ «لا تدري نفس بأي أرض تموت»‏:‏ إشارة إلى أمور العالم السفلي، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقة، وإن مات ببلده لا يعلم بأي بقعة يُدفن فيها، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه، بل قبر أعده هو له‏.‏

وفي قوله‏:‏ «ولا يعلم ما في غد إلا الله»‏:‏ إشارة إلى أنواع الزمان، وما فيها من الحوادث، وعبَّر بلفظ ‏(‏غدٍ‏)‏؛ لكون حقيقته أقربَ الأزمنة إليه، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه، مع إمكان الأمارة والعلامة، فما بعدُ عنه أولى‏.‏ وفي قوله‏:‏ «متى تقوم الساعة إلا الله»؛ إشارة إلى علوم الآخرة، فإن يوم القيامة أولها، وإذا نفى علم الأقرب انتقى علم ما بعدُ، فجمعت الآية أنواع الغيوب، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة‏.‏ وقد بيّن في قوله تعالى، في الآية الأخرى، وهي قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26، 27‏]‏ الآية، أن الإطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف‏.‏ ه ملخصاً‏.‏

والحاصل‏:‏ أن العوالم التي اختص الله بها خمسة‏:‏ عالم القيامة وما يقع فيه، والعالم العلوي وما ينشأ منه، وعالم الأرض وما يقع فيه، وعالم الإنسان وما يجري عليه، وعالم الزمان وما يقع فيه‏.‏ ‏{‏إن الله عليم خبير‏}‏ عليم بالغيوب، خبير بما كان وبما يكون‏.‏ وعن الزهري‏:‏ أَكْثِرُوا من قراءة سورة لقمان؛ فإن فيها أعاجيب ه‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الناس المتوجهون إلى الله، إنَّ وَعْدَ الله بالفتح، لمن أنهض همته إليه، حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها، عن النهوض إليها، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطانُ الغرور، فيغركم بكرم الله، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة؛ إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما، إن الله عنده علم الساعة التي يفتح عليها العبد فيها، وينزل غيث المواهب والواردات، ويعلم ما في أرحام الإرادة، من تربية المعرفة واليقين، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً من زيادة الإيمان ونقصانه، وما تلقاه من المقادير الغيبية، فيجب عليها التفويض والاستسلام، وانتظار ما يفعل الله بها في كل غد، وما تدري نفس بأي أرض من العبودية تموت فيها، إن الله عليم خبير‏.‏

قال القشيري‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم‏}‏‏:‏ خوّفهم، تارةً، بأفعاله، فيقول‏:‏ ‏{‏اتقوا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48 وغيرها‏]‏، وتارة بصفاته، فيقول‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 14‏]‏، وتارة بذاته، فيقول‏:‏ ‏{‏وَيُحِذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمرآن‏:‏ 28‏]‏‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏تنزيل‏)‏‏:‏ إما خبر عن ‏(‏الام‏)‏، إن جُعِلَ اسماً للسورة، أو‏:‏ خبر عن محذوف، أي‏:‏ هذا تنزيل‏.‏ أو‏:‏ مبتدأ، خبره‏:‏ ‏(‏لا ريب فيه‏)‏‏.‏ وعلى الأول ‏(‏لا ريب‏)‏‏:‏ خبر بعد خبر، و‏(‏من رب العالمين‏)‏‏:‏ خبر ثالث‏.‏ أو‏:‏ خبر عن «تنزيل»، و‏(‏لا ريب فيه‏)‏‏:‏ معترض‏.‏ والضمير في ‏(‏فيه‏)‏‏:‏ راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل‏:‏ لا ريب في ذلك، أي‏:‏ كونه منزلاً من رب العالمين، و«أم»‏:‏ منقطعة بمعنى‏:‏ «بل»‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏الام‏}‏؛ أيها المصطفى المقرب، هذا الذي تتلوه هو ‏{‏تنزيلُ الكتاب لا ريبَ فيه‏}‏، لأنه معجز للبشر، ومثله أبعد شيء عن الريب، وهو ‏{‏من ربِّ العالمين‏}‏ لا محالة‏.‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏، أي‏:‏ اختلقه محمد من عنده، وهو إنكار لقولهم، وتعجيب منه؛ لظهور أمره في عجزهم عن الإتيان بسورة منه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل هو الحقُّ‏}‏ الثابت ‏{‏من ربك‏}‏، ولم تفتره، كما زعموا؛ تعنتاً وجهلاً، أنزله عليك ‏{‏لتُنذر قوماً‏}‏ أي‏:‏ العرب، ‏{‏ما أتاهم من نذير من قَبلك‏}‏، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى- عليهما السلام- ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏ إلى الصواب من الدين‏.‏ والترجي مصروفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ مصروفاً إلى موسى وهارون‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏(‏الام‏)‏ الألف‏:‏ أَلِفَ المحبون قُربى، فلا يصبرون عني‏.‏ اللام‏:‏ لمع نوري لقلوب السائرين، فزاد شوقهم إليّ‏.‏ الميم‏:‏ مَلَك الواصلون ملكي وملكوتي، فلا يغيبون عني‏.‏ تنزيل الكتاب، إذا طال أمد لقاء الأحباب، فأعزّ شيء على المحبين كتاب الأحباب‏.‏ أنزلت على أحبابي كتابي، وحَمَلتْ إليهم بالرسل خطابي، ولا عليهم إن قرع أسماعَهم عتابي، فإنهم مني في أمان من عذابي‏.‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏، إنكار الأعداء على المحبين سُنَّة لازمة‏.‏ فإن أُلبِسَ الحق على الأعداء فلا يضركم، ولا عليكم، فإنَّ صحبة الحبيب للحبيب أَلَدُّ ما تكون عند فقد الرقيب‏.‏ قاله القشيري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏اللهُ الذي خلق السماوات والأرضَ وما بينهما في‏}‏ مقدار ‏{‏ستةِ أيام ثم استوى على العرش‏}‏ أي‏:‏ استولى بقهريه ذاته‏.‏ وسئل مالك عنه، فقال‏:‏ الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عن هذا بدعة‏.‏ ه‏.‏ ولم تتكلم الصحابة على الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك‏:‏ السؤال عنه بدعة‏.‏ وسيأتي شيء في الإشارة‏.‏ ‏{‏ما لكم من دونه‏}‏؛ من دون الله ‏{‏من وليٍّ ولا شفيعٍ‏}‏ أي‏:‏ إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً، أي‏:‏ ناصراً ينصركم، ولا شفيعاً يشفع لكم، ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏؛ تتعظون بمواعظ الله‏.‏

‏{‏يُدبّرُ الأمرَ‏}‏ أي‏:‏ أمر الدنيا‏.‏ وما يكون من شؤونه تعالى في ملكه، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏، أي‏:‏ يُبديه لا يبتديه‏.‏ وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي، الجزئي، لا الكلي، فإنه كان دفعة‏.‏ يكون ذلك التدبير ‏{‏من السماء إلى الأرض‏}‏، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، نازلة آثارها إلى الأرض‏.‏ ‏{‏في يوم كان مقداره ألفَ سنةٍ مما تعدُّون‏}‏ من أيام الدنيا‏.‏

قال الأقليشي‏:‏ جاء في حديث‏:‏ «إن بُعد ما بين السماء والأرض، وما بين سماء إلى سماء، مسيرة خمسمائة سنة» وفي حديث آخر‏:‏ «إن بين ذلك نَيِّفاً وسبعين سنة»، وإنما وقع الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة‏.‏ وإن سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض‏.‏ كما يقول القائل‏:‏ من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل، وعليه يخرج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏‏.‏ وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وهكذا الوجود مَنْ علوه إلى سفله، مِنْ الملائكة من يقطعه في مدةٍ ما، ويقطعه غيره في أكثر منها أو أقل‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر، فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، أو خمسين ألف سنة‏.‏ فقد قيل‏:‏ إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفاً، كل موقف ألف سنة‏.‏ وقد حكى هذا ابن عطية، فقال‏:‏ يُدبر الأمر في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة‏.‏ ويوم القيامة‏:‏ مقداره ألف سنة؛ من عَدِّنا‏.‏ وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة؛ لِهوله، حسبما في سورة المعارج‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ والتحقيق، في الفرق بين الآيتين، أن الحق تعالى، حيث لم يختص بمكان دون مكان، وكانت الأمكنة في حقه تعالى كلها واحدة، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته، كان العروج إنما هو إليه على كل حال، بعدت المسافة أو قربت‏.‏ لكن لما علقَ العروج بتدبير الأمور وتنفيذها، قرّب المسافة؛ ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة‏.‏

ولمَّا عَلَّقَ عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بَعَّدَ المسافة؛ زيادة في علو شأنه ورفعة قدره‏.‏ وكل هذا العروج في دار الدنيا‏.‏ على قول من عَلَّقَ ‏(‏في يوم‏)‏ بتَعْرج في سورة المعارج‏.‏ فتأمله‏.‏

‏{‏ذلك عالمُ الغيب والشهادة‏}‏، أي‏:‏ ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت، وما شوهد في عالم الحس من عجائب عالم الملك‏.‏ ‏{‏العزيزُ‏}‏؛ الغالب أمره وتدبيره، ‏{‏الرحيم‏}‏؛ البالغ لطفُه وتيسيره‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات، قطعة من نور ذاته، على ترتيب وتمهيل‏.‏ فتجلى بالعرش، ثم بالماء، فكان عرشه على الماء، ثم بالكرسي، ثم بالأرض، ثم بالسموات، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمداني رحماني من بحر جبروته، استوى به على عرشه؛ لتدبير ملكه، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي‏.‏ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله خلق آدم على صورته» وفي رواية‏:‏ «على صورة الرحمن» وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده، ولرؤيته- باعتبار العامة-، وهذا التجلي كله، من جهة معناه، متصل بسائر التجليات، جزئي من جهة تشكيله للمعنى الكلي، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس‏:‏ أن التجلي المستولي غَيْرُ مُرْتَدٍ برداء الحس؛ إذ لا عبودية فيه، ولا قهرية تلحقه‏.‏ ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء، لأن كنزه ما زال مدفوناً، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان‏.‏ فتأمل، وسَلِّمْ، إن لم تفهم، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقية، فتفهم أسرار التوحيد‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏الذي‏)‏‏:‏ صفة للعزيز، أو‏:‏ خبر عن مضمر‏.‏ ومن قرأ ‏{‏خَلَقَهُ‏}‏؛ بالفتح؛ فصفة لكل، ومن سَكَّنَهُ، فبدل منه، أي‏:‏ أَحْسَنَ خَلْقَ كل شَيْءٍ‏.‏

يقول الحق جل جلاله في وصف ذاته‏:‏ ‏{‏الذي أحسن كلَّ شيءٍ خلقه‏}‏ أي‏:‏ أبدع خلق كل شيء، أتقنه على وفق حكمته‏.‏ أو‏:‏ أتقن كل شيء من مخلوقاته، فجعلهم في أحسن صورة‏.‏ ثم ‏{‏بدأ خَلْقَ الإنسان‏}‏؛ آدم ‏{‏من طين ثم جعل نسله‏}‏؛ ذريته ‏{‏من سلالةٍ‏}‏ أي‏:‏ نطفة مسلولة من سائر البدن، ‏{‏من ماءٍ‏}‏ أي‏:‏ مَنِيٍّ، وهو بدل من سلالة، ‏{‏مِّهِينٍ‏}‏؛ ضعيف حقير‏.‏ ‏{‏ثم سوّاه‏}‏ أي‏:‏ سوّى صورته في أحسن تقويم، ‏{‏ونفخ فيه من روحه‏}‏، أضافه إلى نفسه، تشريفاً، إشارة إلى أنه خلق عجيب، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية، ولذلك قيل‏:‏ من عرف نفسه عرف ربه‏.‏ وقد تقدم في سورة الإسراء، في الكلام على الروح، وجه المعرفة منه‏.‏ ‏{‏وجعل لكم السمعَ والأَبْصارَ والافئدة‏}‏ لتسمعوا كلامه، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته، وتعقلوا، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم‏.‏ ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ أي‏:‏ تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم؛ لقلة التدبر فيها‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏؛ منكرين للبعث‏:‏ ‏{‏أئذا ضللنا في الأرض‏}‏، أي‏:‏ صِرْنَا تراباً، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن‏.‏ أو‏:‏ غبنا في الأرض بالدفن فيها، يقال‏:‏ ضَلَلَ؛ كضرب، وضِلل؛ كفرح‏.‏ وانتصب الظرف في ‏(‏أإذا‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏أئنا لفي خلق جديد‏}‏‏.‏ أي‏:‏ أُنبعث، ونُجدد، إذا ضللنا في الأرض‏؟‏ والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف، وأسند إليهم؛ لرضاهم بذلك، ‏{‏بل هم بلقاء ربهم كافرون‏}‏؛ جاحدون‏.‏ لَمّا ذكر كفرهم بالبعث؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالبعث وحده‏.‏ وقال المحشي‏:‏ أي‏:‏ ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة؛ لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى، ولا يصيرون إلى جزائه‏.‏ ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما أظهر الحق تعالى‏:‏ من تجلياته الكونية؛ فهي في غاية الإبداع والاتفاق في أصل نشأتها، كما قال صاحب العينية‏:‏

وَكُلُّ قَبِيح، إنْ نَسَبْتَ لحُسْنِه *** أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ

يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالُهُ *** فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ، وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ

وأكملُها وأعظمُها‏:‏ خلقةُ الإنسان، الذي خُلِقَ على صورة الرحمن، حيث جعل فيه أوصافه؛ من قدرة، وإرادة، وعلم، وحياة، وسمع، وبصر، وكلام، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس، وسخّر له جميع الكائنات، وهيأه لحمل الأمانة، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن‏.‏ وأما الكافر فهو في أسفل سافلين‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ ذكر حسن الأشياء، ولم يذكر هنا حسن الإنسان؛ غيرةً، لأنه موضع محبته، واختياره الأزلي، كقول القائل‏:‏

وكم أبصرتُ مِن حُسْنٍ، ولكن *** عليك، من الورى، وقع اختياري

قال الواسطي‏:‏ الجسم يستحسن المستحسنات، والروح واحديةٌ فردانيةٌ، لا تستحسن شيئاً‏.‏ وقال ابن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏ثم سواه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ قوّمه بفنون الآداب، ونفخ فيه من روحه الخاص، الذي، به، فَضَّله على سائر الأرواح، لما كان له عنده من محل التمكين، وما كان فيه من تدبير الخلافة، ومشافهة الخطاب- بعد أن قال الورتجبي-‏:‏ أخص الخصائص هو ما سقط من حُسْنِ تَجلِّي ذاته في صورته، كما ذكر بقوله‏:‏ ‏{‏ونفخ فيه من روحه‏}‏‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قل يتوفاكم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّل بكم‏}‏؛ بقبض أرواحكم فتموتون،، ‏{‏ثم إلى ربكم تُرجعون‏}‏؛ بالبعث للحساب والعقاب‏.‏ وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه‏.‏ والتوفي‏:‏ استيفاء الروح، أي‏:‏ أخذها، من قولك‏:‏ توفيت حقي من فلان، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ زُويت الأرض لملك الموت، وجُعلت مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء‏.‏ وعن مقاتل والكلبي‏:‏ بلغنا أن اسم ملك الموت «عزرائيل» وله أربعة أجنحة‏:‏ جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وله الدنيا مثل راحة اليد، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب‏.‏ وعن معاذ بن جبل‏:‏ أن لملك الموت حربة، تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الموتى، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين- وفي حديث آخر، خمس مرات، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله؛ ضربه بتلك الحربة‏.‏ وقال‏:‏ الآن يُزار بك عسكر الأموات‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما الجمع بين قوله‏:‏ ‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏ و‏{‏تَوَفَّاهُمُ الملائكة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏ و‏{‏قُل يَتَوَفَاكُم مَّلَكُ المَوتِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الأنفس‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ ‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن توفي الملائكة، القبضُ والنزعُ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها، ثم يذهبون بها إلى عليين، وقبض الحق تعالى‏:‏ خَلْقُ الموتِ فيه‏:‏ والحاصل‏:‏ أنَّ قبض الملك‏:‏ المباشرة، وقبض الحق‏:‏ الإخراجُ؛ حقيقةً‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ قال الحسن‏:‏ ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم‏.‏ فانظر فيه‏.‏ وأما حديث ملكي الموت والحياة، فقال العراقي‏:‏ لم أجد له أصلاً‏.‏ ويعني بملك الحياة‏:‏ كون الأرواح أنفاسَ ملك الحياة؛ كما في الإِحْيَاء‏.‏ ومذهب أهل السُنَّة قاطبة‏:‏ أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح، من بني آدم والبهائِم وسائر الحيوانات‏.‏ وبه قال مالك وأشهب‏.‏ وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت‏.‏ وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ، كيبس الشجر وجفاف الثياب، فلا قبض لأرواحها وهو أعم من كونها تُبعث أو‏:‏ لا؛ بأن تعاد عن عدم بخلاف المكلف فإن روحه لا تعدم، خلافاً للملاحدة، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً، كجفاف العود الأخضر، وهو كفر‏.‏

هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة، فيكون معنىً وجودياً، أو هو عدم الحياة، فيكون عدماً، وعلى كلا القولين فألأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان، منعّمة أو معذبة‏.‏

‏{‏ولو ترى‏}‏ يا محمد ‏{‏إذِ المجرمون‏}‏ وهو الذين قالوا‏:‏ ‏{‏أئذا ضللنا في الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، و«لو» و«إذ» للماضي، وإنما جاز هنا؛ لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع، و«ترى» هنا، تامة لا مفعول لها، أي‏:‏ لو وقعت منك رؤيةٌ ‏{‏إذ المجرمون ناكسوا رؤوسِهم‏}‏ أي‏:‏ وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم، ‏{‏عند ربهم‏}‏؛ عند حساب ربهم، قائلين‏:‏ ‏{‏ربنا أبصَرْنا وسَمِعْنا‏}‏ أي‏:‏ صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك، وأبصرنا ما حدثَتْنَأ به الرسلُ، وسمعنا منك تصديق رسلك، ‏{‏فارجعنا‏}‏ إلى الدنيا ‏{‏نعملْ صالحاً‏}‏ من الإيمان والطاعة، ‏{‏إِنا موقنون‏}‏ بالبعث والحساب الآن‏.‏

وجواب «لو»‏:‏ محذوف، أي‏:‏ لرأيت أمراً فظيعاً‏.‏

‏{‏ولو شئنا لآتَيْنَا كلَّ نفسٍ هُداها‏}‏ أي‏:‏ ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة، أي‏:‏ لو شئنا لأعطيناه في الدنيا، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي، لو كان منهم اختيارُ ذلك، لاهتدوا‏.‏ لكن لم نعطهم ذلك اللطف؛ لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره‏.‏ وهو حجة على المعتزلة؛ فإن عندهم‏:‏ قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها، لكنها لم تهتد وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر، وهو فاسد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن حقَّ القولُ مني لأملأنّ جهنمَ من الجِنّة والناس أجمعين‏}‏، أي‏:‏ ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب‏.‏ وفي تخصيص الجن والإنس‏:‏ إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم‏.‏ وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا، ولا يصح ذلك، إلا أن يكونوا من الجن‏.‏

‏{‏فذُوقُوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا‏}‏ أي‏:‏ باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا، وهو الإيمان به‏.‏ ‏{‏إِنا نَسيناكم‏}‏‏:‏ تركناكم في العذاب، ‏{‏وذوقوا عذابَ الخُلْدَ‏}‏ أي‏:‏ العذاب الدائم الذي لا انقطاع له ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

ثم ذكر ضدهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنما يُؤمن بآياتنا‏}‏؛ القرأن ‏{‏الذين إذا ذُكَّروا بها خَرّوا سُجَّداً‏}‏؛ سجدوا لله؛ تواضعاً وخشوعاً، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام، ‏{‏وسبَّحوا بحمد ربهم‏}‏ أي‏:‏ نزَّهوا الله عما لا يليق به، وأثنوا عليه؛ حامدين له، ‏{‏وهم لا يستكبرون‏}‏ عن الإيمان والسجود له‏.‏ جعلنا الله منهم بمنِّه، آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب، يتوفاهم ملك الموت، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان؛ يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام؛ كما قيل في الأخفياء من الأولياء؛ الذين اختص الله تعالى بعلمهم- أنه يتولى قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به فلا يعدوا عليها الثرى حتى يُبعثوا بها مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم، بالرجوع إليه من الفناء، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل‏.‏ وقد ورد في الخبر؛ «من واظب على قراءة آية الكرسي، دُبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام»

يعني‏:‏ من تدبر معناها‏.‏ والمراد بذلك خطفتها بالتجلي، واستغراقها في الشهود، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط، مع وجود الواسطة؛ لعموم الآية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قال القشيري‏:‏ لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت؛ لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ، فخاطبهم على قدر أفهامهم، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم‏.‏ وكلَّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه‏.‏ ه‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة، فاعترفوا، حينَ لا عُذْرَ، واعترفوا، حينَ لا اعتراف‏.‏ ه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ لو شاء سَهَّل سبيلَ الاستدلال، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم، وأردنا أن يكون للنار قُطان، كما يكون للجنة سُكان، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ‏.‏ فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا، إذ لو لم يقع، ولم يحصل؛ لم يكن عِلْماً‏.‏ فإذا لا أكون إلها‏.‏ ومن المحال أن أُريد ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ من يتسلَّطْ عليه من يحبه؛ لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه‏.‏ يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيَّرت صفتك، وأكثرتَ مجاهدتك، فما تفعل فيما مضى، كيف تبدله‏؟‏ وما تصنع في مشيئتي، وبأي وسع ترُدُّها‏؟‏ وأنشدوا‏:‏

شكا إليك ما وَجَدْ *** من خَانَهُ فيك الجَلَدْ

حيرانُ، لو شئتَ، اهتدى *** ظمآنُ، لو شئتَ، وَرَدْ‏.‏ ه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يؤمن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب، وبسرائرهم، بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله، كانت وسيلة بلا غاية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏تتجافى‏}‏ أي ترتفع وتتنحى ‏{‏جُنُوبهم عن المضاجع‏}‏؛ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر‏.‏ قال سهل‏:‏ وَهَب لقوم هِبَةً، وهو ان أَذِن لهم في مناجاته، وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال‏:‏ ‏(‏‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏‏)‏، ‏{‏يَدْعُونَ‏}‏ أي‏:‏ داعين ‏{‏ربَّهم خوفاً‏}‏، أي‏:‏ لأجل خوفهم من سخطه ‏{‏وطمعاً‏}‏ في رحمته، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل‏.‏ وسيأتي في الإشارة‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها‏:‏ «هو قيامُ العبد من الليل»‏.‏ وعن ابن عطاء‏:‏ أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة، وطلبت بساط القربة، وعن أنس‏:‏ كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة، فنزلت فيهم‏.‏ وقال ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من عَقَب- أي‏:‏ أحيا- ما بين المغرب والعشاء؛ بُني له في الجنة قصران مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة‏.‏ وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين‏.‏ وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يُرد‏:‏ الدعاء بين المغرب والعشاء» ه‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ، ولا ينامون عنها‏.‏

‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ في طاعة الله، يعني‏:‏ أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس‏.‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لهم من قُرة أعين‏}‏ أي‏:‏ لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة، مما تقرّ به العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب‏:‏ «أَخْفَى»؛ على المضارع‏.‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏، وعن الحسن‏:‏ في القوم أعمالهم في الدنيا؛ فأخفى الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏ وفيه دليل على أن المرادَ الصلاةُ في جوف الليل؛ ليكون الجزاء وفاقاً‏.‏ قاله النسفي‏.‏

وفي حديث أسماء، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين، يوم القيامة، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم‏:‏ سيعلم أهل الجمع، اليوم، مَنْ أَوْلَى بالكرم، ثم يرجع فينادي‏:‏ ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل‏.‏ ثم يرجع فينادي‏:‏ ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون، وهم قليل، يسرحون جميعاً إلى الجنة‏.‏ ثم يحاسب سائر الناس» وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقول الله- عز وجل-‏:‏ أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة‏:‏ واقرؤوا، إن شئتم‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏‏.‏

وقال في «البدور السافرة»‏:‏ أخرج الترمذي، عن أبي سعيد الخدري؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنَّ في الجّنَّة مَائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لَوَسعَتْهُمُ» ه‏.‏ وقال ابن وهب‏:‏ أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد، الضبي، يذكر عمن حدَّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، أول درجة منها دورُها وبيوتها وأبوابها وسرُرُها ومغاليقها، من فضة، والدرجة الثانية‏:‏ دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب، والدرجة الثالثة‏:‏ دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد‏.‏ وسَبْع وتسعون درجة، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى» ه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقرة الأعين‏:‏ النظر إلى وجه الله العظيم‏.‏ قلت‏:‏ قرة عين كل واحد‏:‏ ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا، فمن كانت همته القصور والحور، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، ومن كانت بغيته وهمته النظرة، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، على الدوام‏.‏ قال أبو سليمان‏:‏ شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور، ومن همه الحضور ورفعُ الستور‏.‏ جعلنا الله من خواصهم‏.‏ آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم؛ من نعيم الصقور، والحور، والولدان، وغير ذلك‏.‏ وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقطة، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية، ثم عن مضاجع الفَرْقِ، إلى حال الجمع، ثم من الجمع إلى جمع الجمع‏.‏ فهؤلاء على صلاتهم دائمون، وفي حال نومهم عابدون، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة، والعكوف في الحضرة، واتصال الحبرة‏.‏ فعبادة هؤلاء قلبية، سرية؛ خفية عن الكرام الكاتبين، بين فكرة وشهود، وعبرة واستبصار، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، وقد ورد‏:‏ ‏(‏تفكر ساعة أفضل من عبَادَةِ سَبْعينَ سَنَة‏)‏‏.‏ هذا تفكر الاعتبار، وأما تفكر الشهود والاستبصار، فكل ساعة، أفضل من ألف سنة، كما قال الشاعر‏:‏

كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي *** قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّه

أي‏:‏ سنة، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية، شكراً، وقياماً بآداب العبودية، وهي في حقهم كمال، كما قال الجنيد‏:‏ عبادة العارفين تاج على الرؤوس‏.‏ ه‏.‏ وفي مثل هؤلاء ورد الخبر‏:‏ «إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم، إذ سطع عليهم نور من فَوق، أضاءت منه منازلهم، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم، كما فضل القمر على سائر النجم، فينظرون إليهم، يطيرون على نجب، تسرح بهم في الهواء، يزورون ذا الجلال الإكرام، فينادون هؤلاء‏:‏ يا أخواننا، ما أنصفتمونا، كنا نُصلي كما تُصلون، ونصوم كما تصومون، فما هذا الذي فضلتمونا به‏؟‏ فإذا النداء من قِبل الله تعالى‏:‏ كانوا يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون حين تكسون، ويذكرون حين تسكتون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم»

فذلك قوله تعالى‏:‏ «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون»‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏(‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏)‏، في الظاهر، عن الفراش، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد، وفي الباطن‏:‏ بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قَدرِ النفس، وتوهم المقام؛ لأن ذلك بجملته، حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمٍّ قاتل، فلا يساكنون أعمالهم، ولا يلاحظون أحوالهم، ويفارقون مآلِفَهم، ويَهجُرون معارفهم‏.‏ والليل زمان الأحباب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 73‏]‏ يعني‏:‏ عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم، والنهارُ زمان أهل الدنيا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 11‏]‏‏.‏‏.‏ انظر بقية كلامه‏.‏